يقول ابن القيم في الزاد
لو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة ،
وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكن الامتناع عنها ولا مخالفتها
ومنها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك
يتحقق أنه مصروع حقيقة أ.هـ.
وأغلب بل كل من به مس من الجن يحتاج الى من يشجعه ويعينه على الرقية والعلاج ،
فإن الشياطين تخطط وتعمل على صرف المريض عن الرقية والعلاج بكل الطرق
والسبل ، وإن مصاحبة هؤلاء المرضى والصبر على تصرفاتهم يحتاج الى إنسان
حليم صبور له علم ودراية في تلبيس الشياطين. وان بعض من الناس يعانون
من أعراض المس والسحر في اليقظة والمنام ، وتلاحظ أن تصرفات هؤلاء غير
طبيعية أو أنهم يعانون من أمراض نفسيه مزمنة بل وربما أمراض عضويه لا يعلم
لها سبب منطقي ، وحقيقة أمرهم أنهم مصابون بمس أو عين أو سحر ،
ولكن الشياطين لا تريد لهم الخير أبدا ، فالشيطان يستهوي الإنسان ويستميله
ويستخف بفكره وعقله ويبعده عن كل خير وعن كل ما فيه صلاح دينه ودنياه .
فتسعى الشياطين جاهدة بالمكر والخديعة حتى تصرفهم عن الإستشفاء بالرقى الشرعية
وذلك ببعض الطرق التالية
1. من الطرق التي تعمد لها الشياطين لصرف المريض عن الرقية ، الإيحاء للمصاب
بأنه مصاب بحالة نفسية ، أو أن الأمر طبيعي .
2. يقنع الشيطان المريض برأي من ينكر تلبس الجن للإنس لا سيما إذا كان يتابع
ما تنشره الصحف والإذاعة من حوارات ومناقشات حول الموضوع ذاته .
3. توحي له الشياطين بأن مرضه يمكن علاجه عند الأطباء ، فيقنعونه بأنه مصاب
بحالة نفسية أو مرض عضوي .
4. توحي الشياطين للمريض أن الرقية لا تنفع إلا لمن يعاني من الجنون ، فيخشى
أن يذهب لمن يرقيه فيُعير ويلقب بالمجنون .
5. توسوس الشياطين للمصروع بأنها من ملوك الجان أو من عفاريت الشياطين
أو من كبار مردتهم ، وتجدها تضحك أو تغني في صدر المريض وقت الرقية
حتى تثبت له أنها لا تتأثر ، فيجعلون المريض يشعر بحالة إحباط ويأس وقنوط ،
حتى أني سمعت أحد المرضى يقول : ما أظن أن لمرضي هذا علاج وما أظن
أن أشفى من هذا المرض أبدا ، ونبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول :
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إلا قَدْ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ) . رواه
أحمد في المسند ، وعند مسلم عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله أن رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) قَال:
(لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) .
6. ومن طرق صرف الشيطان ، الإيحاء للمريض بأنه نادم ويريد التوبة والإسلام
وسوف يساعد المريض ، فيصدق المريض الجان فينقطع عن العلاج والرقية على أمل
أن يفي ذلك الشيطان الخبيث بكلامه ، حتى أن أحد المرضى كان يحضر الجان عليه
فيغيبه عن الوعي ، وعندما ينصرف عنه الجان يجد نفسه في مقر العلاج بالرقية
عند أحد الرقاة ، أو في محاضرة في أحد المساجد ، ويفعل الشيطان هذه الأمور
من باب استدراج المريض والتلبيس عليه حتى يصدقه ويركن إليه ومن ثم يستحوذ
عليه ويمكر به ، وكان يخبرني الشيطان على لسان المريض بأنه يذهب به إلى أقل
الرقاة تأثيراً عليه ، ويقول لقد نجحت فعلا في صرفه عن الرقية والعلاج بهذه الطريقة .
7. بعض الشياطين تأتي بالمريض إلى مقرات الرقية الشرعية حتى توهم المريض
بأنها لا تتأثر من القرآن وأنها أقوى من أن يؤثر فيها كلام الله تعالى ، وما هي إلا
جلسات معدودات ثم تنطلي اللعبة على المريض فيتوقف عن العلاج .
8. بعض الشياطين تشترط على المريض بعدم الذهاب للعلاج مقابل التخفيف عليه
وعدم أذيته بل وتيسير سبل المنكرات التي يهواها المريض نفسه .
9. ومن الشياطين من تجعل المريض في حرج وضيق عندما يتحدث الى الراقي
أو ينوي الذهاب اليه .
10. ومن الشياطين من تجعل المريض يخاف من الراقي أو يكرهه دون سبب
أو توحي له بأنه ليس بالقارئ المتمرس .
11. كثيراً ما تأتي الشياطين للمريض في المنام على صورة الراقي وهو يضرب
المريض أو يهينه أو يريد أن يفعل به الفاحشة والعياذ بالله ، وبعد أن يستيقظ المريض
تبدأ الشياطين بالوسوسة المستمرة حتى تجعله يكرهه .
12. ومن طرق صرف الشياطين أن تجعل المريض يتعب بعد الرقية .
13. ومن تلبيس الشياطين أن توحي له للمريض أن رقيتهُ لنفسه بنفسه أقوى
واشد تأثيراً من رقية الراقي المتمرس ، ثم تتفرد به حتى تصرفه عن الرقية تماماً.
ومن ضيعَ السيفَ اتكالاً على العصا * شكى وَقْعَ حَدِّ السيفِ ممن ينازلهْ.
14. في بعض الحالات يتشكل الشيطان للمصاب ويتهدده ويتوعده بالأذى إذا ذهب
للقراء ، وقد لا يتشكل ولكن يخاطب المريض وهو في جوفه بصوت يسمعه المصاب
دون غيره .
15. توسوس الشياطين للمريض بأنها سوف تحضر وتتكلم على لسانه وتفضحه
بالأمور التي لا يريد أن يعلمها عنه أحد .
16. يستشير المريض بالمس مريضا آخر في أمر الرقية ، فيشير عليه بالتوقف
أو بتغير الراقي، والأمر قد دبر فيما بين الشيطان الذي مع المريض والشيطان
الذي مع المريض الآخر .
17. بعض من به مس لا يصرع عند الرقية ويكون في كامل شعوره الا أنه لا يستطيع
السيطرة على لسانه ، فتجد الجني يتكلم ويسب ويلعن المصاب نفسه وربما يمدحه
ويتكلم بكلام كثير فيه الجد والهزل ، وبهذا الطريقة يشك المصاب في نفسه وتوحي
إليه الشياطين بأنه غير مصاب بالمس وما هذه الأفعال والأقوال إلا من فعل الشعور
الباطني ، ومن كوامن النفس ، فيتوقف عن الرقية.
فينبغي على مثل هؤلاء المرضى أن يعلموا أن مثل هذه الأفعال ليست بحالة نفسية
خصوصا إذا كان المصاب يعاني من أعراض المس ، وخير من يشخص مثل هذه
الحالة الراقي المتمرس في العلاج الشرعي ، وهو الذي يأخذ المعطيات عن حالة
المريض ، ولا يجزم بالتشخيص إلا بعد عدة جلسات ، ولست أعني بالقارئ المتمرس
ذلك المتفلسف الذي إذا جاءه المريض قال له أنت فيك كذا وكذا قبل أن يقرأ عليه ،
ويذكر لي أحد الاخوة أن امرأته كانت مسحورة وذهب بها إلى قارئ متفلسف ،
وبعد أن قرأ عليها مع مجموعة من النساء قال لها: إن معك حالة نفسيه ووسوسة
شياطين ، وهي تعلم ما بها من سحر ومس وبلاء عظيم ،
فقالت المرأة للراقي : وماذا عن زوجي ( وكان مسحورا هو الآخر) ؟.
فأجاب الراقي المتفلسف هو الآخر ليس فيه شئ ،
فقالت المرأة: كيف علمت وأنت لم تقرأ عليه ؟
فكأنها ألقمته حجراً .
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي
الرجال أربعة :
- رجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك ناس فذكروه ؛
- ورجل لا يدري ، و يدري أنه لا يدري ، فذلك مسترشد فإرشدوه ؛
- ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ، فذلك جاهل فإرفضوه .
حديث يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب:
أحياناً تأتي الشياطين للمريض من باب الدين ، وذلك بتذكير المريض حديث
السبعين الفاً .
(يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالُوا وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ هُمِ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، رواه الشيخان
فتجد بعض المرضى يأتيك ويقول لك يا شيخ أريد أن أتوقف عن الرقية لعل الله
أن يجعلني من اللذين لا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ، وإذا تتبعت حال المريض
تجده بعيداً كل البعد عن التوكل ، وقد يكونَ ممن يشرب الدخان ويشاهد التلفاز
وما فيه من فتن ، ويسمع الأغاني ، ويعق والديه ، ويفعل كثيراً من المعاصي
والمنكرات بل قد تجده لا يصلي ويريد أن يكون من السبعين ألفاً ممن
لا حساب عليهم ولا عذاب .
ولو سألت هذا المريض عن رأي العلماء في معنى هذا الحديث لقال لك لا أعلم ،
ومن يرجع الى كتب أهل العلم يجد أن العلماء قد اختلفوا في معنى الاسترقاء وفي شرح
معنى هذا الحديث ، وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث على ان التداوي مكروه
ومعظم العلماء على خلاف ذلك ، وقد حمل بعض العلماء قوله
( لا يكتوون ولا يسترقون ) على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، فإنهم كانوا يكتوون
ويسترقون في زمن العافية ، وقيل الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية
ومن الذي لا يعقل معناه لإحتمال أن يكون كفرا ، يقول رَسُولَ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم)(إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ )،
رواه أبي داود ، فدل على أن النهي إنما كان عن الرقى المجهولة أو التي فيها شرك ،
وقيل بأن الاسترقاء المستحسن تركه في حق من كان له قوة على الصبر
وعلى ضرر المرض ، والمطلوب فعله في حق الضعيف ولا يكون
الاسترقاء منافيا للتوكل .
وفي كتاب فتح القدير عند شرح المؤلف
لحديث من اكتوى أو استرقى فقد برء مـن التوكل ، لفعله ما يسن التنـزه عنه
من الاكتواء لخطره والاسترقاء بما لا يعرف من كتاب اللّه لاحتمال كونه شركا
أو هذا فيمن فعل معتمداً عليها لا على اللّه فصار بذلك بريئاً من التوكل ، فإن فقد ذلك
لم يكن بريئاً منه ، وقد سبق أن الكي لا يترك مطلقاً ولا يستعمل مطلقاً بل عند تعينه
طريقاً للشقاء وعدم قيام غيره مقامه مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن اللّه تعالى
والتوكل عليه.
وقال ابن قتيبة
الكي نوعان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه من اكتوى لم يتوكل
لأنه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع. والثاني كي الجرح إذا فسد والعضو إذا قطع
فهو الذي شرع التداوي فيه فإن كان لأمر محتمل فخلاف الأولى لما فيه من تعجيل
التعذيب بالنار لأمر غير محقق.
وقيل المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره ،
لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح ،
لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب ، يقول الحافظ في تعليقه
على الحديث نقلا عن القرطبي
إن الرقى بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما
عنده والتبرك بأسمائه ، فلو كان ذلك قادحاً في التوكل لقدح الدعاء ، إذ لا فرق بين
الذكر والدعاء ، وقد رُقي النبي صلى الله عليه وسلم ورَقى وفعله السلف والخلف ، فلو
كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم
وأفضل ممن عداهم .ا.هـ.
روى مَالِك عَنْ حُمَيْد بْنِ قَيْسٍ المَكّيّ أَنّهُ قَالَ: دُخلَ عَلَى رَسُولِ الله
(صلى الله عليه وسلم) بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبِ. فَقَالَ لِحَاضِنَتِهِمَا
«مَالِي أَرَاهُمَا ضَارِعينِ» فَقَالَتْ حَاضِيَتُهُمَا: يَا رَسُولُ الله. إنّهُ تَسْرَعُ إلَيْهِمَا العَيْنُ.
وَلَمْ يَمْنَعْنَا أَنْ نَسْتَرْقِيَ لَهُمَا إلاّ أَنّا لاَ نَدْرِي مَا يُوَافِقُك مِنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم)
«اسْتَرْقُوا لَهُمَا. فَإنّهُ لَوْ سَبَقَ شَيءٌ القَدَرَ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ».
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
"يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ ".متفق عليه